الرئيس أحمد الشرع ما بين البراغماتية والدبلوماسية الواقعية: قراءة في الفكر والممارسة

بقلم/ هادي أحمد العبدو كاتب وصحفي، مستشار معتمد في التنمية المستدامة.
تأثرت التفاعلات بين الدول بديناميكيات متشابكة للبراغماتية في سياق العولمة. وتتشكل الأنشطة داخل النظام الدولي من سياقات مختلفة، تعكس تعقيدات وجودها.
فبعض الدول بالإضافة إلى تدفقاتها الخاصة، تُدير شؤونها بنهج براغماتي لتحقيق أقصى استفادة من تفاعلاتها، بينما تظل دول أخرى في مصيرها التأملي دون تحقيق تقدم يُذكر أو يكاد يكون معدومًا.
تسعى هذه المقالة إلى تحليل كيفية تأثير تطبيق النهج البراغماتي على هذه النتائج المتباينة، مستكشفةً الآثار الفلسفية الأعمق للبراغماتية في تشكيل التفاعلات المختلفة.
إن الدبلوماسية السورية نموذجاً معقداً يدمج بين تقاليد فكرية وأيديولوجية متباينة، حيث يتقاطع فيها الفكر الليبرالي الذي يعتمد على المبادئ الأخلاقية والمثالية، والفكر الواقعي الذي يركز على استخدام القوة وتوازن القوى في الدبلوماسية؛ هذا المزيج من التقليدين يتيح لسوريا مرونة في العلاقات الدولية تستطيع من خلالها التفاعل مع التحولات الإقليمية والدولية المعقدة.
فقد تزامنت أنجح لحظات الدبلوماسية السورية مع أقصى درجات الالتزام بالبراغماتية، وهو ما كان سببه بالدرجة الأولى الكاريزما الدبلوماسية والايديولوجيا الواقعية للسيد الرئيس أحمد الشرع.البراغماتية حديثة العهد في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية.
ظهرت في المناقشات العلمية قبل بضع سنوات فقط في العلاقات الدولية، على الرغم من أنها كانت موجودة. تعيد البراغماتية بناء النظريات في مجموعة أفكار الناس وأفعالهم. في العلاقات الدولية، غالبًا ما ترتبط بنظريات أخرى، مثل البنائية والمثالية والليبرالية.
تتعامل البراغماتية في مواقف معينة بطريقة معقولة ومنطقية للفعل أو التفكير بدلاً من الاستناد إلى الأفكار والنظريات؛ إنها تمثل نهجًا عمليًا للمشكلات والمواقف. يتم اختبار الحقيقة في المقام الأول من خلال النتائج العملية للاعتقاد. أن تكون براغماتيًا لا يعني أن تكون واقعيًا أو عمليًا فحسب، بل هو طريقة للتفكير.
دخل الفكر البراغماتي هذا المجال السياسي في منتصف التسعينيات في وقت شعر فيه عدد متزايد من الباحثين بالقلق إزاء هذه الثنائية لأنها فصلت الفعل البشري عن التحولات المترابطة داخليًا على المستوى العالمي للتفاعل السياسي.
البراغماتية نظرية اجتماعية مميزة، تبدأ بما يفعله الناس (أولوية الممارسة)، وتنظر إلى النظريات كأدوات للتكيف. بدلًا من التمييز بين الفكر أو النظرية من جهة، والفعل أو الممارسة من جهة أخرى كنشاطين منفصلين.
التحولات الدبلوماسية والتفاعلات الإقليمية: في الأشهر الأولى التي تلت الإطاحة بالأسد، كرّس الرئيس الشرع الكثير من اهتمامه لتوحيد الفصائل السورية والحملات من أجل المساعدات الدولية ورفع العقوبات التي تمثل أولوية حاسمة في بناء جهود إعادة الاعمار، والدفع نحو مرحلة جديدة في سوريا.واصل الرئيس الشرع بناء شبكة من خلال بناء العديد من التحالفات ما بين لقاء قادة الأقليات في سوريا بالإضافة إلى رؤساء دول وحكومات الدول المجاورة.
في يناير، استضاف الشرع الرئيس اللبناني نجيب ميقاتي الذي كان حليفًا مقربًا للأسد ولكنه كان أول رئيس حكومة أجنبي يلتقي رسميًا بالزعيم السوري الجديد؛ كما كانت أول رحلة خارجية للشرع كرئيس إلى المملكة العربية السعودية حيث التقى بولي العهد الأمير محمد بن سلمان وأظهر تقاربا دبلوماسيا بعد قطيعة طويلة وعلاقات متوترة بزمن النظام البائد.
حافظ الشرع على سياسة براغماتية تجاه إسرائيل وهو مايعكس مرونته في التعاطي مع التطورات الإقليمية والحرص على تعزيز مصالح سوريا الاستراتيجية، لكن التوترات ارتفعت بعد استمرار نشاط القوات الإسرائيلية في سوريا ظاهريًا لتأمين الحدود الإسرائيلية السورية وسط شكوك تغيير النظام.
ومع ذلك، وبعد مؤشرات على أن الحكومة الجديدة تعمل بنيّة نحو انتقال مستقر وديمقراطي، رفع الاتحاد الأوروبي بحذر بعض عقوباته على سوريا في فبراير وحذت المملكة المتحدة حذوه بعد أيام الثاني من فبراير، استضاف ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الشرع في الرياض في أول زيارة دولية رسمية له.
وهنأت الإمارات العربية المتحدة ودول خليجية أخرى الشرع في الأشهر الأخيرة، بينما زار الشرع الملك عبد الله في الأردن المجاور في 26 فبراير، حيث ناقشا أمن الحدود وإجراءات مكافحة التهريب.
كما شارك الشرع في القمة العربية في القاهرة في الرابع من مارس، حيث التقى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وأدان دعوة إدارة ترامب لسكان غزة لمغادرة قطاع غزة.
وصرح الشرع هناك قائلاً: “هذه الدعوة تهديد ليس للشعب الفلسطيني فحسب، بل للأمة العربية جمعاء” وأضاف: “هذا اختبار لالتزامنا كعرب بقضيتنا المصيرية، وقد حان الوقت للوقوف في وجه هذه المخططات ورفضها بكل قوتنا”.
في 11 مارس/آذار، وقّع الشرع اتفاقيةً تاريخيةً مع قوات سوريا الديمقراطية (SDF) لضمّ الميليشيا ذات القيادة الكردية إلى الحكومة مقابل ضماناتٍ بتمتع الأكراد بحقوق كاملة ومتساوية كمواطنين سوريين. في ظلّ نظام الأسد، كانت حقوق المواطنة مقيّدة أو مُنحت بشكل انتقائيّ للأكراد في سوريا.
في غضون ذلك، تعهد الاتحاد الأوروبي وشركاؤه، خلال مؤتمر المانحين الذي عُقد في بروكسل في 17 مارس/آذار، بتقديم 6.3 مليار دولار لسوريا وجيرانها لدعم جهود التعافي.
وحضر ممثلون سوريون حملة التبرعات.وعزز الرئيس الشرع من حضوره من خلال مشاركته بمنتدى أنطاليا الدبلوماسي ويُعقد هذا العام تحت شعار “التمسك بالدبلوماسية في عالم منقسم”، استمرت أعمال “منتدى أنطاليا الدبلوماسي” (ADF) خلال الفترة من 11 إلى 13 أبريل الجاري في مركز “نيست” للمؤتمرات، بمدينة أنطاليا جنوبي تركيا بمشاركة 450 ممثلا من 140 دولة، بينهم أكثر من 20 رئيس دولة وحكومة، و74 وزيرا، بالإضافة إلى نواب برلمانيين ومسؤولين آخرين. كما ُعقد ما لا يقل عن 50 جلسة حوارية.
كان لحضوره هذا المنتدى رمزية كبيرة، في وقت تعيش فيه المنطقة تحولات متسارعة، وتبحث سوريا عن موقع جديد في الخارطة السياسية الإقليمية والدولية بعد إعلانها بداية مرحلة انتقالية غير مسبوقة. وأجرى الشرع سلسلة لقاءات في أنطاليا فالتقى برئيس أذربيجان إلهام علييف ورئيسة جمهورية كوسوفو فيوسا عثماني.
كما اجتمع والشيباني برئيس الوزراء الليبي السيد عبد الحميد الدبيبة على هامش المنتدى، وظهر الرئيس الشرع وعقيلته في الجلسة الافتتاحية بصورة لمنتدى أنطاليا الدبلوماسي 2025 المنعقد تحت شعار “التمسك بالدبلوماسية في عالم منقسم” بتركيا.
قراءة استراتيجية في الفكر والممارسة السياسية:كان الرئيس الشرع، بفضل كاريزميّته السياسية وحكمته في التفاوض، أحد أبرز الرموز التي استطاعت توجيه دبلوماسية سوريا لتكون أداة فعالة في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية، فهو يتميز بتعقيد مفاهيمي كبير حيث يُقيّم المواقف قبل اتخاذ أي إجراء، ويبني قراراته على اعتبارات عملية.
كما يركز في أولويته الحالية على بناء التحالفات، والسعي بشكل خاص إلى المشاركة مع الغرب بسعي إلى الحفاظ على المرونة الاستراتيجية.
كما يوازن بين الالتزامات الأيديولوجية والمصالح السياسية، ويقدم تنازلات تكتيكية لتعزيز أجندته. قدم الشرع نفسه حالياً كزعيم سياسي، وصانع قرارات براغماتي يبني قراراته على اعتبارات عملية لا على معتقدات أيديولوجية جامدة.
في إطار نهجه البراغماتي، يظل الشرع يراعي الواقع على الأرض ويقيم تحركاته بناءً على المكاسب العملية والظروف الحالية، والرئيس الشرع من القادة ذوو التعقيد المفاهيمي العالي والتركيز القوي على العلاقات إلى الحصول على دعم الآخرين مع الحفاظ على المرونة الاستراتيجية.
استطاعت جهوده الحالية لكسب الحلفاء، بمن فيهم الجهات الفاعلة الغربية، وموازنة الالتزامات الأيديولوجية مع التطلعات السياسية. علاوةً على ذلك تشير درجات الرئيس الشرع في كلّ من التحيز الجماعي والثقة إلى نهجٍ براغماتيّ أكثر منه أيديولوجيّ في التحالفات.
ورغم أنه لا يزال قائدًا جهاديًا محافظًا، إلا أنه أظهر موقفًا مبتكرًا تجاه القبائل والأقليات غير الإسلامية في سوريا، وتتشكل ثقته وانعدام ثقته في حلفائه من خلال تجارب الماضي والظروف الراهنة؛ لا من خلال جمود أيديولوجيّ متأصل ما يعني أنه يُقيّم العلاقات بناء على المنفعة العملية لا على الشك الشامل، قام بجولات في المحافظات واجتمع بممثلي الأقليات المسيحية والعلوية والدرزية
وبينما حافظت حكومته على توجهها الإسلامي، لم تحظر الكحول ولم تفرض قواعد لباس على النساء، وفقًا لما ذكرته صحيفة نيويورك تايمز.
في مشاركاته الدبلوماسية، حرص الشرع على صياغة رسالته لكل مُضيف. فعند لقائه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في السعودية، ارتدى ربطة عنق خضراء تعكس العلم السعودي، بينما اختار ربطة عنق حمراء في لقائه بالرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا.
رافقته زوجته لطيفة الدروبي الشرع في زيارات رسمية كان آخرها المؤتمر الدبلوماسي في أنطاليا، بما في ذلك لقاؤها بزوجة أردوغان.
فيما يتعلق بالعلاقات الإقليمية، تحدث الشرع بحذر عن إسرائيل، داعيًا إياها إلى احترام الهدنة القائمة منذ عقود على طول حدودهما المشتركة.
كما اتسمت تعليقاته تجاه روسيا بالاعتدال، رغم دعمها العسكري للأسد وقصفها المدن السورية. ويبدو تواصله مع إدارة ترامب محدودًا، مع أنه أشاد في مقابلة حديثة على بودكاست ” الباقي سياسة – قيادة” ، بالرئيس ترامب لاهتمامه “ببناء السلام” و”نهجه الإيجابي تجاه الشرق الأوسط ومستقبل السياسة الأمريكية في المنطقة”.
وفي الختام يتضح أن السياسة الغربية تجاه سوريا يجب أن تكون مبنية على فهم أكثر عمقًا وواقعية للسياق الثقافي والاقليمي والرئيس أحمد الشرع لا يمكن اختزاله في صورة براغماتية كما يفهمها الغرب؛ فهو ليس مجرد دبلوماسي يفاوض على أساس المصلحة بل هو قائد استراتيجي محنك يمتلك فهمًا عميقًا لمتغيرات السياسية الاقليمية، والدولية ويعتمد في منهجه على مزيج من البراغماتية مع مفاهيم دينية وثقافية تشكل ركيزة جوهرية في قراراته.